نتواصل لأجل أطفال سعداء
We Communicate For Happy Children

غزّة: الاستجابة لشلل الأطفال تُقاس بالساعات وعمليّةُ المنظّمات الإغاثية معقّدة للغاية

 
(أطفال فلسطينيون يسيرون بالقرب من مياه الصرف الصحّي الراكدة في طريقهم إلى نقطة توزيع الموادّ الغذائيّة في دير البلح وسط قطاع غزّة. 19 تموز/ يوليو (وكالة فرانس برس، أ ف ب))

إعداد: قسم الإعلام والتواصل في «الشبكة العربيّة للطفولة المبكّرة»

6 أيلول/ سبتمبر 2024

أعمالُ المنظّمات الدوليّة والمحليّة معرقَلة للغاية بسبب السياسات الإسرائيليّة. عاملو الإغاثة ما زالوا في مرمى النيران الإسرائيليّة. أوامرُ الإخلاء الإسرائيليّة القسريّة لدير البلح، المنطقة الوحيدة التي تنسّق فيها الأممُ المتّحدة معظمَ عمليّاتها، متواصلة. المنظّمات الإغاثيّة تعمل في ظروفٍ معقّدة للغاية. وعلى الرغم من إعلان الأمم المتّحدة نجاح أولى مراحل التطعيم، ففي حال فشل الوصول إلى الأرقام التي تستهدفها الحملة بعد اكتمال المراحل، فإنّ شلل الأطفال على حافّة الانتشار. 

مع تسجيل أوّل إصابة لفيروس شلل الأطفال من النمط 2 (cVDPV2) يوم 16 آب/ أغسطس من العام الحاليّ، دخلت غزّة مرحلةً أكثر خطورةً على حياة الأطفال والدائرة المحيطة بهم. أضيفَ هذا المرض إلى لائحةٍ طويلةٍ من الأمراض المنتشرة بين الأطفال، مثل التهاب الكبد الوبائي (أ) والتهاب السحايا والتهابات الجهاز التنفّسي والإسهال والأمراض الجلديّة على أنواعها. على أنّ انتشار هذا المرض مجدّدًا وخطورته الجسيمة سيعيدان أطفالَ غزّة ربعَ قرنٍ إلى الوراء عند تسجيل آخر إصابة، وسيقوّضان جهودًا جبّارةً بُذلت على مدى عقود وسط حملات تطعيمٍ روتينيّةٍ مرتفعة وصلت تغطيتها إلى 99% من الأطفال عام 2022. 

الحالة المكتشَفة لطفلٍ يبلغ من العمر 10 أشهر في دير البلح ليست سوى واحدةٍ من مئات الحالات المحتملة، ذلك أنّ كلّ حالة مؤكّدة توازيها 200 حالة غير ظاهرة، ما يزيد من احتمالات الانتشار. وحتّى تاريخه، تمّ الإبلاغ عن ثلاث حالات شلل، وفق «منظّمة الصحة العالمية». أتى ذلك بعد إعلان الأخيرة ووزارة الصحّة في غزّة بتاريخ 19 تموز/ يوليو عن اكتشاف الفيروس في ستّ عيّنات من مياه الصّرف الصحّي جمعتها «اليونيسف» من موقعين في خان يونس ودير البلح. 

أسبابٌ كثيرةٌ تراكمت مشكّلةً أرضيّةً خصبةً لإعادة انتشار الفيروس؛ من إيقاف حملات التطعيم المطلوبة، خصوصًا لحديثي الولادة، بفعل استمرار الحصار والإبادة الإسرائيليَّين، إلى العرقلة المنهجيّة للمساعدات الإنسانيّة والطبيّة والصحيّة، مرورًا بالظروف الصحيّة المأساويّة التي يعيشها أهل القطاع وأطفالُه في ظلّ تدمير جيش الاحتلال الإسرائيلي البنى التحتيّة للرعاية الصحّية وإمدادات المياه وأنظمة الصرف الصحّي، ما جعله خاليًا من المياه النظيفة- الأمر الذي فاقم من أزمة المياه السابقة على الإبادة الحاليّة في غزّة- وصولاً إلى أوامر النزوح الجماعي القسريّة وتكدُّس النازحين وأطفالهم في مساحاتٍ ضيّقة للغاية. وقد أضاءت «هيومن رايتس ووتش» على بعض هذه الأسباب، موضحةً أنّها «تساهم في التفشّي الكارثي المحتمل لشلل الأطفال في غزّة». 

عمليّة التطعيم ضدّ شلل الأطفال في غزّة معقّدة للغاية. (وكالة أسوشييتد برس، أ ب)                                   

الحملة انطلقت.. ولكن؟

«الاستجابة لشلل الأطفال تُقاس بالساعات. والإعاقة الجماعيّة تهدّد أطفال غزّة ما لم يُلقَّحوا ضدّ الشلل»، تقول منظّمة «أنقِذوا الأطفال». انطلاقًا من هذه الوقائع، تحاول المنظّمات الإنسانيّة الدوليّة، بالتعاون مع السلطات والمنظّمات المحليّة، تكثيفَ الجهود لمنع انتشار المرض من جديد. وقد وصلت القطاع في 25 آب/ أغسطس مليون و260 ألف جرعة لقاح من النمط 2، سبقتها معدّات التبريد اللازمة لحفظها. 

وبعد منع الاحتلال الإسرائيليّ بدء حملة التطعيم ضدّ شلل الأطفال لأسابيع، ورفضِه الموافقة على هدنة إنسانيّة لتسهيل وصولها إلى أطفال القطاع، انطلقت الحملة في مرحلتها الأولى مطلع أيلول/ سبتمبر وسط ضغطٍ خارجيّ كبير، على أن تستمرّ حتى 12 من الشهر نفسه. وتصل الحملة إلى محافظة غزّة والشمال يوم 9 أيلول/ سبتمر.

في محاولةٍ لاحتواء الآفّة، تخطّط وزارة الصحّة الفلسطينيّة، بالتعاون مع «الأونروا» و«منظّمة الصحّة العالميّة» و«اليونيسف» وآخرين، تطعيمَ أكثر من 640 ألف طفل تحت سنّ العاشرة على مرحلتين، بدأت الأولى مع نهاية أيلول/ سبتمبر. يوجد حاليًّا أكثر من 200 فريق معني بالحملة في مواقع وسط غزّة، وقد أعلنت الأمم المتّحدة تطعيم 187 ألف طفل حتى 4 أيلول/ سبتمبر، مع استمرار الحرب الإسرائيليّة.

من بين الأطفال المستهدَفين، حوالي 50 ألفًا وُلدوا خلال الأشهر العشرة الماضية. الغالبيّةُ الساحقةُ منهم لم تتلقَّ أيّ لقاحٍ منذ الولادة لمواجهة أيّ مرضٍ بسبب الإبادة الإسرائيليّة المتواصلة وتدمير البنى التحتيّة الصحيّة ومنع وصول المساعدات على أنواعها. ناهيك عن مئات آلاف الأطفال الذين فاتتهم التطعيمات الروتينيّة للأسباب عينها، والذين يعيشون حالة نزوحٍ متكرّرةٍ وسط ظروفٍ مأساويّة ترفع خطر الإصابة بالأمراض حدّ الموت. 

لكنّ تَوفّر اللّقاح وحده في غزّة ليس كافيًا، وإنْ تحقّقت شروطُه على مستوى كفاية الأعداد وآليّات الحفظ، وحتّى انطلاق الحملة. الظروفُ التي تعمل ضمنها المنظّمات الإنسانيّة معقّدة وصعبة للغاية. والطّواقم الطبيّة عاجزة عن الوصول إلى بعض المناطق بسبب تواجد الجيش الإسرائيليّ واستمرار القصف. إنّ تحقيق هذه الخطّة بالشكل المطلوب دونه عوائق عدّة أبرزها: 

أوّلاً، استمرار العمليّات العسكريّة وغارات الطيران التدميريّة الإسرائيليّة وعرقلة التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار، أو هدنةٍ إنسانيّة، على الرغم من إعلان «هدن مؤقّتة وإنسانيّة» بين الساعة 6 صباحًا و14:00 خلال مرحلة التطعيم. وقد أعلنت «الأونروا» أنّ أحد أكبر التحدّيات توزيعُ اللّقاحات بأمان في هذه المناطق، قائلةً «ما زلنا نجاهد من أجل الوصول إلى المرافق والأُسر والأطفال في تلك المناطق. من الخطر عليهم للغاية السفر والتحرّك فهناك قتالٌ مستمرّ». في هذا الإطار، هناك إجماعٌ كاملٌ بين المنظّمات المعنيّة بالحملة حول ضرورة وقف إطلاق النار أو التوصّل إلى هدن جدّيّة تضمن عمل الطواقم الطبّيّة من دون خطر في كامل القطاع لنجاح الحملة. وهذا النجاح يعتمد على الوصول إلى حوالي 95% من الأطفال المستهدفين في المرحلة الأولى.   

ثانيًا، أوامر الإخلاء القسريّ الإسرائيليّة المتكرّرة لسكّان القطاع، ومن بينهم المهجّرون إلى مناطق وُصفت بالآمنة. وكان آخرها أوامر إخلاء لدير البلح، في 25 آب/ أغسطس، ما دفع الأمم المتّحدة إلى تعليق أعمالها في القطاع، على قلّتها، لفترةٍ وجيزة. وديرُ البلح هي المنطقة الوحيدة التي تنسّق فيها الأمم المتّحدة معظم عمليّاتها، وتحوي عشرات آلاف النازحين. وقد منحت إسرائيل «إشعارًا لساعاتٍ قليلةٍ فقط لنقل أكثر من 200 موظّف أممي من مكاتبهم وأماكن إقامتهم في دير البلح، التي تُعدّ مركزًا إنسانيًّا بالغ الأهمية»، بحسب الأمم المتّحدة.

ووفق «مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة» (OCHA) ، أصدر الجيش الإسرائيلي بين 19 و24 آب/ أغسطس أكبر عدد من أوامر الإخلاء التي صدرت في أسبوع واحد منذ بداية الأزمة. وقد استأنفت الأمم المتّحدة عمليّات تقديم المساعدات بينما عاملو الإغاثة في مرمى النيران طوال الأزمة التي وصفتها بـ«الأكثر فتكًا على الإطلاق بالنسبة للأمم المتحدة».

ثالثًا، تَقلُّص ما يُسمّى «المساحات الآمنة والإنسانيّة» لتبلغ حوالي 11% من إجمالي مساحة القطاع. أي أنّ 11% فقط لم تخضع إلى أوامر الإخلاء منذ بداية الإبادة. وهذه المساحة «غير صالحة للعيش أو لتقديم الخدمات»، في حديث «الأونروا» عن خطّة التلقيح. 

رابعًا، تدمير القصف الإسرائيلي شبه الكامل للمرافق الصحيّة في غزّة، ما يعني الصعوبة الشديدة لمتابعة علاج المصابين. وفي هذا الإطار أوضحت «الأونروا» أنّه «إذا كانت مياه الصرف الصحّي وظروف المياه هي التي أدّت إلى إصابتهم (المرضى) بشلل الأطفال، فإنهم بحاجة إلى العلاج في مرافق الرعاية الصحية والمستشفيات والعيادات، والعديدُ منها يعمل جزئيًّا فقط».

 

ولكن، ماذا يعني انتشار شلل الأطفال؟ ولمَ يُعتبر فشلُ الحملة خطرًا؟ 

شلل الأطفال مرضٌ مُعدٍ، يسبّبه فيروس. تتراوح شدّة المرض من عدوى مستترة إلى مرضٍ شلليّ قد يُفضي إلى الموت عندما يصيب عضلاتٍ حيويّة مثل تلك المسؤولة عن التنفّس. بشكلٍ أساسيّ، يصيب المرض الأطفال دون سنّ الخامسة، لكنّه قد يصيب أيّ شخصٍ لم يحصل مسبقًا على التطعيم بصرف النظر عن عمره. وتؤدّي حالةٌ واحدةٌ من أصل 200 حالة عدوى بالمرض إلى شللٍ عضال، ويلاقي ما بين 5% و10% من المصابين بالشلل حتفَهم بسبب توقّف عضلاتهم التنفّسيّة. 

في منتصف القرن العشرين، تسبّب فيروس شلل الأطفال بشلل أو وفاة أكثر من نصف مليون شخص سنويًّا، وكان أحدَ الأسباب الرئيسيّة لإصابة الأطفال بالشلل حول العالم. ومع اكتشاف اللقاحات، انخفضت حالات المرض الناجمة عن فيروس شلل الأطفال بنسبة تزيد على 99% منذ عام 1988. 

ومع ذلك، برز خلال العقدين الماضيين بعضُ الحالات من فيروس شلل الأطفال من النمط 2 في بعض أماكن النزاعات حول العالم، أبرزها اليمن والسودان. وتكمن خطورة المرض في أنّه قد يسبّب شللًا كاملاً في غضون ساعاتٍ قليلة. أمّا تأخّر التلقيح، أو عدم وصوله إلى الفئات المستهدفة كافّة، فيتسبّب بنقل الفيروس إلى عددٍ أكبر من الأطفال. وإذا لم يُسمح بالتلقيح، «فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى إعاقة جماعيّة للأطفال»، وفق «أنقِذوا الأطفال» تعليقًا على شلل الأطفال في غزّة. والأخطر، إذا تحوّل هذا المرض إلى وباءٍ واسع النطاق فإنّه لن يكون محصورًا ببقعة جغرافيّة، بل إنّ «الاطفال خارج الحدود سيتأثّرون أيضًا»، وفق المنظّمة نفسها. 

انطلقت الحملة إذًا واكتملت المرحلة الأولى. نجاحُ الحملة أو فشلُها متعلّقان بعوامل عدّة. لكنّ تحقُّق أيٍّ من الخيارين من دون وقفٍ دائمٍ وفوريّ لإطلاق النار يعني بقاء أطفال القطاع في دوّامة الإبادة والأمراض.