11 آذار/ مارس 2025
في عدد محوري نُشر في نهاية عام 2024، كشفت مجلة «لانسيت» عن سلسلة رائدة بعنوان «الأيام الألف المقبلة: البناء على الاستثمارات المبكّرة لصحة ونموّ الأطفال الصغار». تقدّم هذه السلسلة المكوّنة من جزأيْن استكشافًا شاملًا لمرحلة النموّ الحرجة من عمر السنتين إلى خمس سنوات، مع تأكيد ضرورة رعاية التنشئة المستدامة، والحصول على تدخّلات مبكّرة بشكل عادل، والتعاون متعدّد القطاعات لضمان النتائج المثلى للأطفال في جميع أنحاء العالم. انطلاقًا من المكاسب الأساسية للأيام الألف الأولى (من الحمل إلى سنّ الثانية)، تدرس السلسلة كيف يمكن للمرحلة التالية من الطفولة المبكّرة أن تشكّل الصحة والتعلّم والرفاه مدى الحياة.
أهمية الأيام الألف التالية
تشدّد الورقة الأولى في السلسلة على أهمية الأيام الألف التالية بصفتها فترة حسّاسة للنموّ الإدراكي والحركي والاجتماعي والعاطفي السريع. يكشف هذا التقرير أنّ 25.4% فقط من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و4 سنوات في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل يتلقّون رعاية تنشئة كافية، ما يترك حوالي 182 مليون طفل معرّضين لخطر الانتكاسات النمائيّة. غالبًا ما تكون الأبعاد الرئيسية لرعاية التنشئة (الصحة والتغذية والرعاية المستجيبة والسلامة والتعلّم المبكّر) متاحةً على نحو غير متكافئ، مع تفاقم الفوارق بسبب الفقر والموقع الجغرافي والنوع الاجتماعي. على سبيل المثال، في حين يحافظ 86.2% من الأطفال في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على وزن صحّي، فإنّ أقلّ من الثلث يستفيد من التحفيز النمائي أو يتمتّع بحماية من العقاب الجسدي.
كما تسلّط السلسلة الضوء على الحاجة الملحّة إلى برامج عالية الجودة وقابلة للتطوير لرعاية وتعليم الطفولة المبكّرة. حاليًّا، يشارك 38.8% فقط من الأطفال في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل في برامج رعاية وتعليم الطفولة المبكّرة، مع وجود فجوات كبيرة في جودة الخدمة والإنصاف. وقد فاقمت جائحة كوفيد-19 صعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية، ما زاد من حدّة نقاط الضعف القائمة. يدعو مؤلّفو هذه السلسلة إلى تدخلات متكاملة تجمع بين خدمات الصحة والتغذية والتعليم، لاسيّما في سياقات رعاية وتعليم الطفولة المبكّرة، من أجل التعاطي مع الحاجات المتعدّدة الأوجه للأطفال الصغار وأسرهم.
التحدّيات التي يواجهها الأطفال في المناطق المتأثّرة بالنزاعات
تكشف مراجعة الخرائط الموجودة في السلسلة عن تباين صارخ بين المناطق في العالم حيث تشتدّ الحاجة إلى التدخّلات والأماكن التي تُنفَّذ فيها، ففي حين أنّ 70% من التدخلات المنشورة تنشأ من البلدان ذات الدخل المرتفع، فإن 5% فقط تجري في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، على الرغم من العبء غير المتناسب للمخاطر المتعلّقة بالنموّ في هذه البيئات. تؤكّد المراجعة أهمية التدخلات التي تكون ذات صلة ثقافية وقائمة على أدلّة وتعطي الأولوية للفئات السكّانية الضعيفة، بما في ذلك الأطفال ذوي الإعاقات ومَن هم في السياقات الإنسانية.
هذه المسألة ملحّة بشكل خاص في المناطق المتأثّرة بالنزاعات، بما في ذلك العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض والبلدان العربية، حيث دمّرت الحروب وموجات النزوح نظم تنمية الطفولة المبكّرة. إنّ ملايين الأطفال في مناطق الحروب، مثل فلسطين وسوريا واليمن ولبنان والسودان، يكبرون في بيئات من عدم الاستقرار المزمن، ويفتقرون إلى القدرة على الحصول على التغذية الكافية والرعاية الصحية والتعليم. يؤثّر التعرّض المطوّل للعنف والصدمات بشكل خطير على نموّ الدماغ، ما يزيد من مخاطر الإجهاد السامّ والاضطراب العاطفي والتأخّر الإدراكي. في هذه المناطق حيث تتعرّض أجيال بأكملها لخطر التخلّف عن الركب، تكون أساسيةً التدخلات الهادفة التي توفّر دعمًا نفسيًّا ومساحات تعلّم آمنة وبرامج تغذية طارئة. مع ذلك، لا تزال هذه الجهود تعاني من نقص التمويل بشكل خطير، وغالبًا ما تكون المساعدات الدولية غير كافية لتلبية الاحتياجات المتزايدة للأطفال النازحين والمتضرّرين من الحرب. يتطلّب التعاطي مع هذه التحديات جهدًا عالميًّا متضافرًا لدمج دعم الطفولة المبكّرة في الاستجابات الإنسانية، وضمان حصول الأطفال على الرعاية والحماية اللّازمتين للنموّ الصحي حتى في خضمّ النزاعات.
تختم سلسلة «لانسيت» بدعوة ملحّة للتحرّك موجّهة إلى صنّاع السياسات والباحثين/ات والممارسين/ات لإعطاء الأولوية للأيام الألف التالية كنافذة حاسمة للتدخّل. وتنادي بزيادة الاستثمارات في أنظمة الرعاية والتعليم في مرحلة الطفولة المبكّرة، وتكامل الاستراتيجيات المتعدّدة القطاعات، وتطوير أطر مراقبة قوية لتتبّع التقدّم والنتائج. ومن خلال معالجة أوجه عدم المساواة في الحصول على رعاية التنشئة والاستفادة من إمكانيات الرعاية والتعليم في مرحلة الطفولة المبكّرة، سيساهم المجتمع العالمي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
تعمل هذه السلسلة البارزة بصفتها موردًا أساسيًّا لفهم التحدّيات والفرص في تنمية الطفولة المبكّرة، وتقدّم توصيات قائمةً على الأدلّة من أجل توجيه البحوث والسياسات والممارسات المستقبليّة. كما تؤكّد أهمية الاستمرارية في رعاية التنشئة من أول يوم إلى الأيام الألف القادمة، وتسلّط الضوء على الترابطات بين تدخّلات الطفولة المبكّرة وعلى تأثيرها العميق طويل الأمد على حُسن الحال الفردي والمجتمعي.