شهدت الجهود العلمية التربوية منذ أوائل القرن العشرين تناميّاً واضحاً وملموساً في مجال البحث في نظريات تعلم الكائن الحي وتعليمه. وتناولت هذه البحوث والنظريات العلمية بالتعريف والتحليل تحديد متطلبات إنجاز أهداف التعلم، وتقييم الأداء التدريسي والتعلمي إلى غير ذلك من مفاهيم وأبعاد تتصل بالعملية التعليمية. وكانت هذه النظريات معنية بوصف أفضل الطرق للإجابة عن الاسئلة التالية: مااذا نعلم؟ كيف نعلم؟ ما طبيعة الطفل الذي نعلمه، وما خصائصه؟ ماذا نعلم؟ ما نتيجة هذا التعليم؟ وممكن القول ابتداءً إن البحث في قضايا التعليم والتعلم ونظرياته ظل طوال القرن العشرين
وحتى الآن يتعرض لنوعنين محتملنين من الرؤى والإسقاطات: الأول نابع من النظرة إلى التعليم على أنه عملية فنية محايدة لا تتأثر بالفلسفات، وحكمتها عوامل موضوعية واحدة مهما اختلفت الأطر
الاجتماعية وتباينت الأصول الفلسفية. وهذه النظرة جعلت الدراسات التربوية المعنية بالتعليم والتعلم محكومة إلى حد بعيد بأولويات وإشكاليات ومنهجيات معينة، قد لا تتوافق بالضرورة مع
الاحتياجات التربوية الواقعية للنشء والشباب ومع متطلبات الفهم العلمي والموضوعي لها. أما الرؤية الثانية فهي نابعة من مقاربة عمليات التعليم والتعلم بالأوضاع الاجتماعية والسياسية التي
تحدث فيها هذه العمليات. فلا مغزى البتة للنظر إلى التدريس - مثالً - على أنه شىء محايد، أو لتمييز المعرفة المدرسية عن المحتوى الإيديولوجي لها. وعلى ذلك ليس من المنطقي في ضوء
هذا المنظور، تقومي التدريس والمعرفة وعمليات التعلم بالاعتماد على مجرد المعايير المحايدة. إذ إن كل طريقة تدريسية تقوم على أساس تصورات عن طبيعة المتعلم وإمكاناته وحدوده وقدرته على الوصول إلى المعرفة. كما أن الكتب الدراسية تتحكم في تأليفها واستخدامها مجموعة من الأسس الفلسفية: هل يقوم الإنسان / المتعلم بدور إيجابي، أم سلبي في عملية التعلم؟ وهل يقف الإنسان على هامش العالم، أم في داخله؟ هل هو خاضع له، أم قادر على تغييره؟ إلى غير ذلك (محمد نبيل نوفل، 1990 : 61).
14 رؤى فكرية في تنشئة الطفل العربي
فالتعليم - من وجهة النظر هذه - قد يؤدي دوراً اجتماعيّاً وسياسيّاً في النظام الإجتماعي السائد ومؤسساته في المجتمع، وقد يكون أكثر ميالً إلى التعبير عن وجهة نظر المصالح السائدة وألادوار المستقرة للأفراد والمجموعات، أو قد يدعم لدى النشء والشباب القدرات والمهارات النقدية والرغبة في المشاركة الاجتماعية والسياسية. وبرغم أن أوضاع التعليم العربي وقضاياه قد شغلت العديد من الباحثني، ووقع التركيز على العديد من الموضوعات والمشكلات التي يعاني منها المتعلمون والمعلمون، فإنه يلاحظ على معظم هذه البحوث أنها لم تقدم إطاراً محدداً من المفاهيم البنيوية الشاملة حول التعليم والتعلم، ويبدو أن الكثير منها ركز - وبدرجة أكبر - على الالتزام بالتعميمات والتجريدات التي تسيطر على المفاهيم وألافكار والقضايا التي يطرقها الباحثون والمفكرون العرب، وفي الوقت ذاته، نالحظ
انحسار الجهود التحليلية التي تربط بين عمليات التعليم والتعلم والسياق الاجتماعي والاقتصادي الذي تجرى فيه هذه العمليات. وإذا كانت المتطلبات المعرفية لصياغة المفاهيم العلمية تشير إلى أنه لا يمكن عزل المفهوم العلمي عن سياقه النظري والنموذج الاسترشادي الذي تنطلق منه النظريات التربوية، فإن المفاهيم التي تجمع أو تصاغ من دون استيعاب أُطرها النظرية وجذورها الفكرية وإلايديولوجية - كتلك التي تنتج من دراسات إمبريقية جتزيئية - تفقد جدواها العلمية خارج نطاق العمل المحدد الذي ترتبط به. صفوة القول: إن البحــوث والدراســات العربيــة ذات الاهتمــام بأمــور التعليــم والتعلــم
قــد انطلقــت - فــي معظمهــا - بغيــر أن تتبنــى مفاهيــم واضحــة ومحــددة لعناصــر العمليــة البيداجوجيـة )أي التـي تتصـل بالتعليـم والتعلـم واحملـددات الأخـرى ذات الصلـة بهمـا( التـي تســتوعب الفــروق بـيـن التوجهــات الاجتماعيــة والاقتصاديــة والتعليميــة للنظريــات التربويــة. ومهما يكن من تباين في المداخل والنظريات التربوية التي تناولت قضايا التعليم والتعلم، فمن املهم افتراض أن تحديد المفاهيم التعليمية / التعلمية تحديداً واضحاً ومحدداً هو مبثابة البوصلة التي كمتن من الوصول إلى التنظير الواقعي للعملية التربوية، وكلما اكتسبت هذه البوصلة العلمية التجدد والانفتاح على الواقع المتغير مكنت الباحثين من رصد وتحليل وتفسير أوفى للقضايا والظواهر المدروسة (جامعة الدول العربية 2005 : 3). وفي ضوء ما سبق، فإن الورقة الحالية تستهدف تقدمي إطلالة تقريبية للمفاهيم التعليمية /التعلمية ألاساسية لبعض النظريات التي تنطلق من منظور اجتماعي، وهي نظرية باولو فريري،
15رؤى فكرية في تنشئة الطفل العربي
والنظرية البنائية، والنظرية النقدية. فلا تزال هذه النظريات تؤثر بقوة على كثير من البحوث والممارسات التربوية في كثير من المجتمعات المتقدمة والنامية وفي الوطن العربي؛ حتى نكون في موقع أفضل بعد مناقشتها وتقييم الممارسات التربوية التي تترتب عليها؛ ولكي يتيسر لنا فيالنهاية تقدمي بعض الاستخلاصات ألاساسية حول الاستخدام ألاكثر كفاءة ومالءمة لهذه المفاهيم التربوية على المستويات التطبيقية العملية.
وتنطلق الورقة الحالية من تساؤل رئيس يمكن صياغته على النحو التالي: كيف كان الفهم النظري من قبل باولو فريري والنظريتين البنائية والنقدية للمفاهيم وألابعاد الرئيسية للعملية التعليمية؟ وما المصالح الجوهرية التي قصدت هذه النظريات التربوية تحقيقها؟ وما أساليبها البيداجوجية في هذا الصدد؟ ويسبق هذا السؤال بالضرورة سؤال آخر هو: ما الاصول الفكرية لهذه التوجهات النظرية الثالثة؟
وقبل محاولة إلاجابة عن هذين السؤالين، ينبغي إلاشارة إلى ملاحظة لها طابع منهجي، وهي، أنه عند تحليل المفاهيم التربوية لدى باولو فريري والنظريتني البنائية والنقدية، لن نتتبع حالات وتفاصيل هذه الاتجاهات النظرية، نظرية تلو أخرى على نحو تحليلي تاريخي، فلدواعٍ إجرائية نعرض حصاد نتائج هذه النظريات بالتركيز على المفاهيم البيداجوجية ألاساسية. والإجابة عن هذين التساؤلني، فإن الورقة الراهنة تسير وفق ثالثة عناصر أساسية هي:
- أولا:ً خلفية عامة حول المنظور النقدي: النشأة والرؤى النظرية.
- ثانيا:ً المفاهيم والمبادئ البيداجوجية ألاساسية في بعض النظريات التربوية المعاصرة
(النظرية البنائية - النظرية النقدية - نظرية باولو فريري).
والمفاهيم التي يتم تناولها في هذا القسم، هي:
- ألاهداف التعليمية.
- مفهوم الطفل.
- التعلم.
- التدريس.
- المعرفة.
- التقومي.
- ً ثالثا: استخالصات أساسية ختامية.